1- حماية الدعوة وتأمين انتشارها:
لقولِه - تبارك وتعالى -: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}[1].
فالإسلام "لا يعرِف حربَ العُدْوان، ولا يزاوِلُها لبسْط السُّلطان، وإنَّما هو يعتبِرُها تأمينًا لدعْوته، وإباحة لحرِّيَّة الاعتقاد، ويتَّخذ منها حصنًا يقيه اعتِداء المعتدين، ويردُّ كيدَ الكائدين الغاشِمين، ليبلِّغ للنَّاس كلِمة التَّوحيد التي جاء بها الرَّسول، الذي بعثه الله ليُعيدَ ما تناساه النَّاس من التَّوحيد الَّذي جاء به الرُّسل السَّابقون، ويهدم الوثنيَّة عند المشركين، فكلّ مَن يمنعه من تبليغ دعوته، ويَحول بيْنَه وبين نُصْح النَّاس، يَجب قتاله، ليُفْسح الطَّريق أمام الدَّعوة"[2].
فالغرض الأصيل من القتال هو حماية الدَّعوة؛ "لذلك فإنَّ الإسلام لا يَقْهر، ولا يُجبر امرأً على دين يرفضُه، وعلى هذا فالحريَّة مكفولة في أحكام ودستور الإسلام، ولو صحَّ قولُ بعضِهم أنَّ الإسلام سلَّ سيفًا وفرض نفسَه جبرًا لَمَا وجدنا شيئًا اسمه "الجزية" أو "ذمّيون"، فالجزْية لغير المسلمين الَّذين لم يرْضَوا دخول الإسلام، ولم يُجبرهم الإسلام على اعتِناقه، إنَّهم في حريَّة تامَّة، عقائدُهم ومعابدُهم مُحترمة يطبِّقون أحكام دينهم فيما بينهم"[3].
2- حماية دار الإسلام:
من أهداف الجهاد القِتالي الدِّفاع لردِّ اعتداء المعْتدين على أرْض المسلمين؛ يقول الله - جلَّ جلالُه -: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[4]؛ أي: "هذا حثٌّ من الله لعباده المؤمنين وتَهييج لهم على القِتال في سبيله، وأنَّ ذلك قد تعيَّن عليهِم، وتوجَّه اللَّوم العظيم عليهِم بترْكِه، فقال: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والحال أنَّ المستضعفين من الرِّجال والنِّساء والولدان الَّذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهْتدون سبيلاً، ومع هذا فقد نالَهم أعظم الظُّلم من أعْدائهم، فهم يدْعون الله أن يُخرجهم من هذه القرية الظَّالم أهلُها لأنفُسِهم بالكفر والشِّرْك، وللمؤمنين بالأذى والصَّدِّ عن سبيل الله، ومنْعِهم من الدَّعوة لدينهم والهجرة.
ويدْعون الله أن يَجعل لهم وليًّا ونصيرًا يستنقِذُهم من هذه القرية الظَّالم أهلها، فصار جهادُكم على هذا الوجه من باب القتال والذَّبِّ عن عيلاتكم وأولادِكم ومحارمكم، لا من باب الجِهاد الذي هو الطَّمع في الكفار، فإنَّه وإن كان فيه فضل عظيم ويُلام المتخلِّف عنه أعظمَ اللَّوم، فالجِهاد الَّذي فيه استنقاذ المستضْعفين منكم أعظمُ أجرًا وأكبر فائدة، بِحيث يكون من باب دفْع الأعْداء"[5].
3- المحافظة على العهود والمواثيق:
فيجِب الحفاظ عليْها والالتزام بها وعدَم التلاعب بها أو نقضها، فالعهود التي أُبْرِمت في عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم، سواءٌ كانت مع قريش أم اليهود - نقَضَها أصحابُها ونكثوها؛ فلذلِك قاتَلَهم رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقاتَلَ يهودَ قُرَيْظة وقريشًا لمَّا نقضوا عهودهم.
وفي قتال مَن نكثَ عهْدَه يقول الحقُّ - سبحانه وتعالى -: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[6]؛ أي: "يقول تعالى بعدما ذكر أنَّ المعاهدين من المشركين إنِ استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على الوفاء: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ}؛ أي: نقضوها وحلُّوها، فقاتَلُوكم أو أعانُوا على قتالكم، أو نقصوكم، {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ}؛ أي: عابُوه، وسخروا منْه، ويدخُل في هذا جميع أنواع الطَّعن الموجَّهة إلى الدِّين، أو إلى القُرآن، {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}؛ أي: القادة فيه، الرُّؤساء الطَّاعنين في دين الرَّحمن، النَّاصرين لدين الشَّيطان، وخصَّهم بالذِّكْر لعِظَم جنايتهم، ولأنَّ غيرهم تبَعٌ لهم، وليدلَّ على أنَّ مَن طعن في الدِّين وتصدَّى للرَّدِّ عليه، فإنَّه من أئمَّة الكفر.
{إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ}؛ أي: لا عهودَ ولا مواثيق يُلازمون على الوفاء بها، بل لا يزالون خائنين، ناكثين للعهد، لا يوثق منهم.
{لَعَلَّهُمْ} في قتالكم إيَّاهم {يَنْتَهُونَ} عن الطَّعن في دينكم، وربَّما دخلوا فيه.
ثمَّ حثَّ على قتالِهم، وهيَّج المؤمنين بذِكْر الأوصاف، التي صدرتْ من هؤلاء الأعداء، والتي هم موصوفون بها، المقتضِية لقتالهم"[7].
4- درء الفتنة ومنْع البغْي في الدَّاخل والخارِج:
كالرِّدَّة والحرابة والبغْي، كذلك إذا بغتْ فئة وخالفتْ جماعةَ المسلمين وأرادت الفساد في الأرْض، وجَبَ قِتالُها حتَّى ترجع إلى أمر الله تعالى.
ففي الفتنة: "والفتنة أنواع، منها: ما يُمارسه الكفَّار من تعذيب المستضْعفين من المؤمنين وتضْييق الخناق عليهم ليرتدُّوا عن دينهم؛ قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[8]، ومنها: الأوْضاع والأنظمة الكفريَّة وما ينتج عنها من فسادٍ في شتَّى مجالات الحياة؛ فإنَّ هذه من شأْنِها أن تفْتِن المسلِمَ عن دينه، وبهذا فسَّر بعض السَّلف قولَه تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}[9]"[10].
ففي الحرابة: يقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[11].
وفي بغي فئةٍ على فئةٍ يقول عزَّ اسمُه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[12].
وفي الردَّة: عن ابن عبَّاس - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن بَدَّلَ دِينَه فَاقْتُلوه))[13].
وقد أثيرت مجموعةٌ من الشُّبهات حول الرِّدَّة، بكونِها تمنع الإنسانَ من الحرّيَّة الثقافية واختيار الدين الَّذي يريد، لكنَّ الأمر ليس كما يرى هؤلاء المغربون، إنَّ عقوبة الردَّة الهدف منها هو حماية انحِلال الأمَّة - الَّتي يريد لها الله تعالى أن تبقى موحَّدة، ويريد لها أعداءُ الدين أن تنحلَّ وتتمزَّق وتتشتَّت - والمحافظة على وحدتِها وتماسُكها؛ لأنَّ الرِّدَّة خيانة عظمى، وليستْ حقًّا ثقافيًّا كما يرى "اللائيكيون" من بني جلْدتنا.
ومجمل القول:
إنَّ جهاد النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - القتالي كان وفْق تلك الضَّوابط والأهداف، "فكلُّ سريَّة أو بعثٍ أو غزْوة في زمن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنَّما كانت ردًّا على عدْوان وانتقامًا منه، أو دفعًا لأذى، أو تنكيلاً بناكثٍ أو غادِر، أو تأديبًا لبُغاة أشرار، أو ثأرًا لدم إسلامي، أو ضمانة لحريَّة الدَّعوة والاستجابة المهدَّدتين أو المعطَّلتين بغيًا وعدوانًا.
ولا يُمكن أن يكون وقَع من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نقضٌ للمبادئ التي قرَّرها القرآن وبلَّغها النبي بطبيعة الحال، والتي استمرَّت تتْرى في الآيات القرآنيَّة في مختلف أدوار السيرة النبوية في عهدَيْها إلى آخرها"[14].
وهكذا تقرِّر الشَّريعة الغرَّاء أنَّ الجهاد القتالي في الإسلام ليس "طاقة مادّيَّة، وقوَّة عسكريَّة، وتحرُّكًا مادِّيًّا، ابتغاءَ النَّصر كيفما كان الأمر، إنَّه في الإسلام عبادة يتطوَّع بها المسلم بدمه وماله لنصرة دين الله، وترسيخ شرْعِه ونظامه في هذه الدنيا.
ليس القصْد في الجهاد الانتِصار ولا الغلبة والسَّيْطرة على مناطق النُّفوذ، ولا بسط السلطان على أكبر مساحات من الخامات، كلاَّ، القصْد فيه مرضاة الله، بنشْر دينه وتطبيق شرعه.
حينما يرْقى المسلِمون في جهادِهم إلى هذا المستوى، يصْبحون جديرين بنصْر الله، وإنجاز وعده، والقوَّة المادِّيَّة المجرَّدة، لا غناء للإنسانيَّة فيها، إن لم يصنعها الإيمان، ويفجِّرها اليقين، وتثبتها إشعاعات من روح الله"[15].
ــــــــــــــــ
[1] سورة البقرة: 193.
[2] الفن الحربي، عبدالرؤوف عون، ص65.
[3] الإسلام في قفص الاتهام، شوقي أبو الخليل، ص104.
[4] سورة النساء: 75.
[5] تفسير السعدي، ص187.
[6] سورة التوبة: 13 - 14.
[7] تفسير السعدي، 330.
[8] سورة النساء: 75.
[9] سورة البقرة: من الآية 193.
[10] منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة، ص248.
[11] سورة المائدة: 33.
[12] سورة الحجرات: 9.
[13] صحيح الإمام البخاري، كتاب استِتابة المرتدِّين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتدّ والمرتدَّة، ح2622.
[14] سيرة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - صور مقتبسة من القُرآن الكريم، وتحليلات ودراسات قرآنية، محمد عيسى دروزة، 2/ 278 - 279.
[15] صور وعبر من الجهاد النَّبوي بالمدينة، محمد فوزي فيض الله، ص181 - 182.