عندما كنا صغارًا علَّمونا في المدارس قول سيد الشعراء المتنبي:
لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الأَذَى حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ
وكنا نَحَار متسائلين: ما علاقة الشرف الرفيع بالدم؟ حتى إذا جاءت مقاومة غزة، ورأينا بأم أعيننا شهداء غزة تُراق منهم الدماءُ زكيةً طاهرة في سبيل نيل حريتهم، وفتح معابرهم، واسترداد أدنى حقوقهم الإنسانية، علمنا صدق مقولة المتنبي.
وعندما كنا صغارًا لقَّنونا في المدارس قول أمير الشعراء شوقي:
وَلِلْحُرِّيَّةِ الحَمْرَاءِ بَابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يَدُقُّ
وكنا نعجب من تلوين شوقي للحرية باللون الأحمر، وهل للحرية لون؟! وكان عجبنا يزداد من دقِّه بابَ الحرية باليد المضرَّجة بالدم! ألا يمكن لهذا الباب أن يدق بيد ناعمة الملمس، طرية المقرع؟! حتى إذا رأينا فتك اليهود وتدميرهم، ومبلغ تعطشهم للدماء، واستبسال المجاهدين في صدِّهم وردهم، والصمود في وجوههم، أدركنا صدق مقولة شوقي.
وعندما كنا صغارًا حفَّظونا في المساجد قول ربنا - سبحانه -: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
فكنا نظن ذلك ضربًا من التاريخ، لا يصح إلا مع الأنبياء وحواريِّهم - عليهم السلام - والصحابة وتابعيهم - عليهم الرضوان - حتى إذا رأينا بأمِّ أعيننا اندحارَ أعظم آلة حربية مدمرة في العالم، تمدُّها من ورائها أكبرُ قوة عظمى في عالمنا، وتراجعَها وانسحابَها أمام فئة من المجاهدين لا يملكون من السلاح إلا أهونَه، ولا من العتاد إلا أقلَّه، أدركنا مصداق قوله - تعالى - في كتابه المحكم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وعندما كنا صغارًا قرأنا في سيرة نبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن الأحزاب عندما أحدقوا بالمدينة من كل جانب، وبلغت قلوبُ الذين آمنوا الحناجرَ؛ خوفًا وفرَقًا وجزعًا، وزاد الطينَ بِلَّةً غدرُ اليهود، ونقضهم ميثاقهم، فأصبح النبي والذين معه بين عدوَّين متربصين مِن أمامهم ومِن خلفهم، ولكن ذلك كله لم ينل من ثبات رسولنا الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - شيئًا؛ بل زاده قوة، ومضاء، ورباطة جأش، وجعل يبشِّر أصحابه بفتح الشام وبلاد فارس واليمن، في حادثة شهيرة سطرتها صفحاتُ السيرة العطرة بأحرف من نور، وذلك عندما ضرب صخرة فانقدح منها شرر، فقال: ((الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام))، ثم ضربها أخرى فانقدح الشرر، فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس))، ثم ضربها ثالثة فانقدح الشرر، فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن))، عند ذلك أرجف المرجفون في المدينة من المنافقين وأضرابهم، أن الرسول يبشر بهذه الفتوح، وإن أحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؛ من شدة الخوف والهلع، والبلاء المحدق من كل جانب! وكان أنِ انجاب البلاء، وكُشف الكرب، وانتصر المسلمون، وعوقب اليهود، ثم توالت بشائر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - تتحقق، الواحدة تلو الأخرى.
وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه، فنرى المرجفين يرجفون، والطاعنين يطعنون، والظانِّين يظنون، أن المقاومة ستمحى، وأن الجهاد سيزول، وأن الأمر لن يكلف إسرائيل أكثر من أيام معدودات، فماذا كان؟
لقد كذب ظنهم، وخاب فَأْلهم، وانتصرت غزة برغم كل ما أصابها من دمار وخراب، وما قدمت من ضحايا وشهداء، وبقيت المقاومة تهدد أمن اليهود، وتقضُّ مضجعهم؛ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} [الحج: 40].
لقد آن لنا أن نعرف أن عدوَّنا شرس ماكر، لا تجدي معه إلا لغةُ المقاومة والقتال، وأن ما أُخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة.
لقد آن لنا أن نوقن أن اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا؛ {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].
لقد آن لنا أن نؤمن بأن الجهاد هو السبيل الوحيد لاسترداد حقِّنا، وردِّ عدونا، ونيل عزتنا وكرامتنا.