موضوع: المعنى العام للجهاد ومراتبه الثلاثاء يناير 10, 2012 3:11 pm
المعنى العام للجهاد ومراتبه
المعنى اللغوي:
قال الراغب في مفردات القرآن: (الجَهْد والجُهْد: الطاقة والمشقة· وقيل الجَهْد بالفتح: المشقة، والجُهْد: الوسع)(2).
وقال ابن حجر: (والجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة)(3).
المعنى الشرعي:
يدور المعنى الشرعي عند أغلب الفقهاء: على قتال المسلمين للكفار بعد دعوتهم إلى الإسلام أو الجزية ثم إبائهم·
فهو عند الأحناف: (بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك)(4).
وبأنه: (الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله)(5).
وعند المالكية هو: (قتال مسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى)(6).
وعند الشافعية كما قال الحافظ ابن حجر: (وشرعًا: بذل الجهد في قتال الكفار)(7).
وعند الحنابلة: (قتال الكفار)(.
وكل هذه التعريفات يُرى أنها قد حصرت الجهاد في قتال الكفار، وهذا هو تعريف الجهاد عند الإطلاق· وهناك أنواع أخرى قد أطلق عليها الشارع اسم الجهاد مع خلوها من القتال كجهاد المنافقين، وجهاد النفس·
ولذا فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعريفًا عامًا للجهاد قال فيه: "والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق"(9).
وقال أيضاً: "··· وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله
من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"(10).
وتحت هذا المعنى العام للجهاد يدخل جهاد النفس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، ومن ذلك جهاد البيان والبلاغ، ومدافعة الفساد والمفسدين؛ بل إن جهاد الكفار بالسنان إن هو إلا جزء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف الأكبر - وهو نشر التوحيد - والنهي عن المنكر الأكبر - وهو الشرك بالله عز وجل والكفر به - وذلك بعد دعوة الكفار إلى التوحيد ورفضهم له أو لدفع الجزية·
ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حقيقة الجهاد بمعناه العام وأنواعه فيقول: "لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقُبَّتَه، ومنازلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعةُ في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذِّروةِ العُليا منه، واستولى على أنواعه كلِّها فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب والجَنانِ، والدعوة والبيان، والسيف، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده· ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا·
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52).
فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغ القرآن· وكذلك جهادُ المنافقين إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73).
فجهادُ المنافقين أصعبُ من جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثة الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عددًا، فهم الأعظمون عند الله قدرًا·
ولما كان من أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند من تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للرسلِ - صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ - مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه·
ولما كان جهاد أعداءِ الله في الخارج فرعًا على جهادِ العبد نفسه في ذاتِ الله؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه)(11). كان جهادُ النفس مُقدَّماَ على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلاً له؛ فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمِرَتْ به، وتترك ما نُهيت عنه، ويُحارِبها في الله، لم يمكنه جهادُ عدوه في الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه في الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوه، حتى يُجاهد نفسه على الخروج·
فهذان عدوَّانِ قد امتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما في جهادهما من المشاق، وترك الحظوظ، وفوت اللذات، والمشتهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان؛ قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً )(فاطر: من الآية6). والأمر باتخاذه عدوًا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يفتر،ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس·
فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في هذه الدار، وسُلِّطت عليه امتحاناً من الله له وابتلاء، فأعطى الله العبد مدداً وعُدَّةً وأعوانًا وسلاًحًا لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مددًا وعُدَّةً وأعوانًا وسلاحًا، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلُوَ أخبارهم، ويمتحن من يتولاه، ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(الفرقان: من الآية20) ، وقال تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)(محمد: من الآية4)، وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31).